الجمعة 13 مايو 2022

التوريث السياسي في لبنان تهمة أم ميزة؟

التوريث السياسي في لبنان تهمة أم ميزة؟

التوريث السياسي في لبنان تهمة أم ميزة؟

غالباً ما تُطرح مع كل إستحقاق إنتخابي في لبنان، نيابياً أو حزبياً، قضية «التوريث السياسي»، بعدما شكلت هذه الظاهرة علامةً فارقةً في الحياة السياسية اللبنانية، قديماً وحديثاً على حد سواء.

ورغم أن التوريثَ السياسي ليس حكراً على لبنان ويَحْضر في الكثير من الدول ذات الأنظمة الديموقراطية العريقة وإن بدا أقرب إلى التوارُث، فإنه يستمرّ مدار جدل في بيروت التي تصاعدت في شوارعها وأنديتها أخيراً دعوات للتغيير

وشكلت احتجاجات 17 أكتوبر 2019، التي راوح توصيفها بين الإنتفاضة، والثورة، الاندفاعةَ الأهمّ والأكثر تعبيراً عن الرغبة الشعبية في التغيير بوجه ما سمي «المنظومة الحاكمة» وأنماط العمل السياسي التقليدي في البلاد.

وفي إحصاء سريع يتبين أن نحو 27 نائباً من أصل 128 في البرلمان الحالي هم من الورثة السياسيين سواء كانوا أبناء أو أخوة أو أصهرة أو زوجات سياسيين سابقين تركوا مقاعدهم لهؤلاء طوعاً أو بسبب الوفاة. ويرتفع العدد كثيراً إذا عدنا أعواماً إلى الوراء وإحتسبنا البرلمانات السابقة ومَن كان يحتل مقاعدها من ورثة.

واليوم ومع الإستحقاق الإنتخابي الحالي، يتضح أن عدد المرشحين المنتمين إلى عائلات سياسية إزداد بدل أن يتضاءل بعد انتفاضة 17 أكتوبر وكأن هذه العائلات التي صارت تخشى أن يجرف التغييرُ وجودَها السياسي ويقضي على إرثها باتت أكثر تشبثاً في الحفاظ على وجودها السياسي من خلال وجوه الجيل الجديد التي تطرحها لتكون الإستمرارية السياسية لها.

وإذا كان التوريث العائلي يُعتبر من ضمن التقاليد اللبنانية، فثمة ظاهرة غريبة تتمثل هي توريث الأحزاب السياسية وكأنها إرث عائلي يمتدّ من الأب إلى الأبن فالحفيد. ولا تقتصر الوراثة على زعامة الحزب بل كذلك على ولاء المحازبين، وكأن الوريث وبمجرد إنتمائه إلى العائلة يحصل على الحزب وجمهوره فيؤول إليه دون أي سؤال أو شرعية.

ولا يقتصر توريثُ الأحزاب السياسية على فئة أو طائفة معينة من اللبنانيين بل يشمل الأحزابَ المسيحية والإسلامية السنية والشيعية والعلوية والدرزية وإن كانت الوراثة لم تخرج إلى العلن بشكلٍ فاقع في الأحزاب الشيعية. والغريبُ في الأمر أن الأحزاب الجديدة التغييرية التي تَظْهر إلى العلن بين الفينة والأخرى ثم تختفي لم تتمكّن من الصمود في وجه الأحزاب التقليدية التي رغم ثورة الشعب وإنتقاداته المستمرة إستطاعتْ ليس فقط الصمود بل تأمين الإستمرارية وضمان سيطرتها على جمهورها، لا من خلال التجدد بل عبر تأمين الوريث الذي يستمدّ شرعيته من إسمه وعائلته ويضمن ولاء جمهور الحزب.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل تَعَلُّق الجيل القديم من المحازبين بالزعيم وولائهم لوريثه يمكن أن ينسحب على الجيل الجديد أم أن هذا الجيل لم يعد مؤمناً بالوراثة بل يحتاج إلى مَن يحاكي تطلعاته وآماله؟

وفي الاستحقاق النيابي الحالي برزت ظاهرةُ الوراثةِ عند أكثر من حزب وعائلة سياسية. ولكن رغم تشبث أصحابها بها إلا أنها باتت أشبه بتهمة تُوجَّه إليهم من قوى التغيير وتتطلب منهم الدفاع عن نفسهم تجاهها. وقد رأينا أكثر من وريث سياسي عبر شاشات التلفزيون يستقطع وقتاً مهماً لنفي تهمة الوراثة عنه والدفاع عن موقعه لا كوريث بل كشخص يحمل الإسم لكنه يقدّم طروحات جديدة وجهد شخصي يحاكي تطلعات الشعب اللبناني المنتفض. ولكن هل يستطيع الوريث، مهما حاول، أن يَخرج من عباءة الأب والجَد ومن هالة الزعيم الحزبي أو يُناقِض تاريخهم وسلوكهم ليقدم طروحات جديدة تحاكي جيل اليوم؟

عن هذا الموضوع تجيب الباحثة في علم الإجتماع السياسي، الدكتورة ميرنا زخريّا، فتقول لـ «الراي»: «التوريث السياسي ظاهرة قديمة في تاريخ الإنسانية جمعاء، واللافت انه ليس حكراً على الأنظمة الملكية بل تراه ينتشر في الأنظمة الجمهورية وإنما في شكل مقنَّع. ومثلما هناك حُكم ديموقراطي وآخر ديكتاتوري، هناك على حد سواء توريث من النوعين ذاتهما، بحيث أن الإرث النيابي، أكاديميّاً، يأخذ شرعيته الديموقراطية من صناديق الإقتراع وذلك على عكس وراثة المَقاعد عبر تعيين الأقربين لترؤّس وزارة ما أو حتى لترؤّس حزب ما، فهذان المركزان يُساهمان في شكل غير مباشر في بناء شعبية حتمية قبيل الترشح لمقعد نيابي لاحق. ولا بد من الإشارة إلى انه لا يصحّ تشبيه المقعد النيابي أو الحزبي المتوارَث، بغيره من الوظائف الأخرى المتوارَثة، وذلك بسبب أثره الكبير على الدولة ككل وعلى كل الشعب وليس على جزء صغير جداً منهما».

وحول المسبّبات وراء وضع لبنان تحت المجهر أكثر من غيره من الدول بالنسبة إلى إنتشار التوريث رغم وجود هذه الظاهرة حتى في أعرق الديموقراطيات الغربية تشرح زخريا الأمر بـ «أنه في الدول الديموقراطية تكون نسبة الوَرَثَة في المراكز التشريعية والتنفيذية محدودة، كما يكون احتلال الوريث لهذه المراكز لفترة زمنية محدودة وهذا ما لا ينطبق مع الأرقام في لبنان». وترى ان «التوريث في لبنان يقع على درجات ولا ضوابط واضحة له: من السياسيّ إلى إبنه وأحفاده، ومنه إلى إبنه ثم مجدداً إليه، منه إلى أصهره، منه إلى إبنه وإبن أخيه وإبن أخته في آن، هو وابنه في آن واحد دون أي منهجية، كما انَّ ترسُّخ إمكان التلاعب بنتائج الإنتخابات النيابية قد يخفّف من وهج فوز النواب الوَرَثَة لأنه إن لم تحلّق بهم أصوات المقترعين، فسيدعمهم ويدعم من معهم على اللائحة ذاتها صوت الوساطة».

شرعية التوريث في دائرة الشك

نسأل الباحثة في علم الإجتماع السياسي من أين تستمد ظاهرة التوريث صدقيتها وإستمراريتها فتشرح أن «عدداً لا يستهان به من الوَرَثَة تعرّضت عائلاتهم إما لإغتيال وإما لمحاولة إغتيال، ما يساهم في شرعنة الوراثة وترسيخها، ولا سيّما ان عُنصري التعاطف والليونة هما عنصران فعّالان جماهيرياً. من جهة أخرى تتقدم إلزاميّة الوراثة من أجل ضمانة حُكم العائلة على إلزاميّة كفاءة الوريث، فاللّغط الحقيقي عند العموم ليس حول أحقيّة التوريث فحسب، بل هو في كثير من الأحيان حول توريث شخص غير جدير. واللافت في قضية التوريث السياسي في لبنان أن لا مساواة جندرية في التوريث، فالأم السياسية كما الأب السياسي كلاهما يورّثان ولدهما الذكر على حساب الفتاة في العائلة وإن كانت تتمتع بكل المواصفات المطلوبة. والمفاجئ أيضاً أن التوريث لا يقتصر على بيوتات قديمة، بل هو في طور الإزدهار الدائم إذ دخلتْه وتدخله عائلات جديدة من كل الطوائف والمناطق، وإن كانت من مُنتقديه في مراحل سابقة».

لا شك في أن هناك وَرَثَة نجحوا وأثبتوا ذاتهم كما هناك وَرَثَة أخفقوا، فما الملاحظات التي تستحقّ ان يُلقى عليها الضوء مع إقتراب الإستحقاق النيابي المنتظر؟ تجيب الدكتورة ميرنا زخريا أن «من الطبيعي أن يفكّر الأبناء عامةً بأسلوب يختلف عن الأجداد، لكنه يصعب على وريث سياسي أن يُغيِّر في خطاب مَن وَرَث عنهم الكرسي، ذلك أنه يُكْمِل في مسيرته السياسية طوابق بنائه على أساسات وثوابت مَن سبقوه. أما بالنسبة للتوريث الحزبي فإن غيابَ دمٍ جديد على رأس حزبٍ ما هو تغييبٌ لأي تفكيرٍ جديد، ومن هنا عدم وجود أحزاب يترأسها وَرَثة سياسيون يعارضون مسيرة الآباء والأجداد او حتى يخالفون عناوينها العريضة المُتوارَثة».

لكن رغم هذا الواقع السياسي في لبنان والذي يتجلى بوضوح في عدد الترشيحات المتوارثة على بعض المقاعد النيابية فإن تغييراً ما يلوح في الأفق إذ تنهي زخريا حديثها قائلة إن «الألفية الثالثة شهدت تراجعاً لشعبية الوَرَثَة السياسيين، فالجيل الجديد وبخطى ثابتة لم يعد يؤيد السياسي إكراماً للحافز التعاطفي أو للمحرّك العائلي والتاريخي، وذلك على عكس الجيل الأكبر سنّاً. وبعملية حسابية بسيطة جداً، نجد أن وضْعَ الوَرَثَة في كل منطقة وعند كل إستحقاق هو في غالبيته أصعب مما كانت عليه أوضاع المورِّثين الأوائل؛ فالإرتباط والتماهي الذي كان يُلبّي هؤلاء قد أخذ ينحسِر مع ورثتهم».

فهل تكون إنتخابات بعد غد الأحد دليلاً على هذا الإنحسار أم يمكن لبعض الورثة أن يشكلوا مفاجأة على صعيد الحضور الشعبي المحبَّب كما بدأ يتضح من بعض إطلالاتهم الإعلامية؟

جميع الحقوق محفوظة