الجمعة 16 أكتوبر 2020

ماكرون يدفع ثمناً باهظاً لتاريخ فرنسا الدموي في أفريقيا

ماكرون يدفع ثمناً باهظاً لتاريخ فرنسا الدموي في أفريقيا

ماكرون يدفع ثمناً باهظاً لتاريخ فرنسا الدموي في أفريقيا

قبل عقود عرضت السلطات الفرنسية الرؤوس المقطوعة لعدد من مقاتلي المقاومة الجزائرية للاحتلال الفرنسي في ساحة أحد الأسواق أولا ثم نقلتها إلى قبو أحد المتاحف الخاصة في باريس.

وفي يوليو الماضي قرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إعادة هذه الرؤوس إلى وطنها الجزائر.

وعندما توقفت طائرة النقل العسكري الجزائرية في أحد المطارات كان قائد الجيش وأحد رجال الدين في انتظار 24 نعشا ملفوفة بالعلم الجزائري تضم رفات المقاتلين الجزائرين العائدة من فرنسا.

كان هذا المشهد بالنسبة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون اعترافا فرنسيا بالمذبحة التي وقعت منذ أكثر من 170 عاما. وبالنسبة للرئيس الفرنسي ماكرون كان الأمر جزءا من محاولته تقديم صورة حديثة للدولة الفرنسية في الوقت الذي تصاعدت فيه حدة الانقسامات العرقية في بلاده على خلفية الاحتجاجات على عنف الشرطة تحت شعار «حياة السود تستحق» الذي انطلق من الولايات المتحدة.

والحقيقة أن ماكرون يكافح للمحافظة على الدور التاريخي لبلاده في جزء من القارة الأفريقية كان خاضعا لسيطرتها على مدى أكثر من قرن.

ويقول ماكرون إنه يريد إعادة الكثير من الآثار والتحف الأفريقية التي تم نقلها إلى فرنسا خلال الحقبة الاستعمارية. كما يدعم جهود دول غرب أفريقيا للانفصال عن العملة الموحدة المدعومة من فرنسا، ويتعهد بفتح أرشيف الدولة الفرنسية بشأن المذابح التي ارتكبتها حكومة مدعومة من فرنسا في رواندا.

وترى وكالة بلومبرغ للأنباء أن هذا لا يكفي. فقد أصبحت أفريقيا التي تضم أكثر من مليار نسمة وتشهد حركة تمدين متسارعة ونموا اقتصاديا قويا، منطقة جذب للقوى الصاعدة مثل الصين وروسيا ودول الخليج وتركيا.

ويعني هذا أن قادة القارة لم يعدوا مضطرين للاعتماد على فرنسا، في الوقت الذي تتعثر فيه جهود ماكرون لإقامة جسوره الخاصة بسبب التهديدات السياسية التي يواجهها في الداخل من مارين لوبان اليمينية المتطرفة التي حصلت على المركز الثالث في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي فاز بها ماكرون عام 2017.

ويمكن القول إن التوترات الاجتماعية في المدن الفرنسية وتراجع النفوذ الفرنسي في الخارج يعود إلى نفس المشكلة، وهي فشل فرنسا في مواجهة ماضيها الدموي بحسب إبراهيم سنوسي أستاذ الفيزياء في جامعة سرجاي بونتواز الفرنسية الذي قاد حملة استمرت 10 سنوات من أجل عودة رفات الثوار الجزائريين من فرنسا إلى الجزائر.

ونقلت بلومبرغ عن سنوسي القول «ماكرون يقف على الخطوط الأمامية في هذه المعركة ويسعى إلى إحياء دور فرنسا على المسرح العالمي».

وكان الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديجول قد أسس شبكة علاقات للحفاظ على النفوذ الفرنسي في أفريقيا بعد استقلال أغلب الدول التي كانت تحت احتلال فرنسا منذ أكثر من ستين عاما.

وتقدم فرنسا الدعم العسكري لأنظمة الحكم الصديقة في أفريقيا مقابل الدعم الديبلوماسي والصفقات الكبيرة من هذه الدول للشركات الفرنسية، في حين تغض باريس الطرف عن الانتهاكات المحلية التي تمارسها هذه الأنظمة. وحتى بعد استقلال الدول الأفريقية، تعرض آلاف الجزائريين للتسمم الإشعاعي نتيجة التجارب النووية الفرنسية التي كانت تجري في الجزائر.

وقد اعترف العديد من الرؤساء الفرنسيين السابقين بهذه الممارسات القديمة، لكن أيا منهم لم يتخذ أي خطوة أبعد من ذلك.

ولكن ماكرون «42 عاما» أول رئيس فرنسي مولود بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية يتحرك بشكل مختلف. ففي عام 2017 وفي أثناء حملته الانتخابية وصف ماكرون ممارسات بلاده في الجزائر بأنها «جريمة ضد الإنسانية» وهي كلمات غير مسبوقة من مرشح رئاسي فرنسي.
ومن بين كل المستعمرات الفرنسية السابقة، كان رد فعل الجزائر الأقوى.

فقد كانت فرنسا تتعامل مع الجزائر باعتبارها جزءا من الدول الفرنسية، ولم تستقل إلا بعد حرب دامية استمرت سنوات وتركت ندوبا قوية على جسد المجتمع الفرنسي نفسه.

ويقول مسؤول مقرب من الرئيس الفرنسي إن ماكرون يعتقد أن فرنسا ظلت على مدى سنوات تتعامل مع علاقاتها بمستعمراتها السابقة باعتبارها أمرا مفروغا منه. ولكن الحكومة الحالية بدأت تنتبه إلى ضرورة التحرك للمحافظة على هذه العلاقات.

وفي الثاني من أكتوبر الحالي قال ماكرون إن فرنسا تحتاج إلى الوصول إلى فهم جديد لماضيها، بحيث يشعر هؤلاء الذين عانى أسلافهم من الاستعمار بأنهم سيحصلون على حقوقهم من هؤلاء الذين استفادت عائلاتهم من معاناة هؤلاء الذين عانوا في الماضي.

وبدا حجم التحدي الذي تواجهه فرنسا مؤلما بالنسبة للرئيس ماكرون أثناء زيارته لأكبر قاعدة عسكرية فرنسية في الخارج في جيبوتي خلال العام الماضي. وعندما تولى ماكرون الرئاسة منذ ثلاث سنوات، كانت قطعة الأرض المجاورة للقاعدة الفرنسية في جيبوتي خالية.

عندما زار ماكرون القاعدة في مارس 2019، كانت الصين أقامت قاعدة عسكرية في قطعة الأرض الخالية، بهدف تقزيم الوجود الفرنسي.

ما أن الرئيس الجيبوتي إسماعيل جوليه يقيم في قصر بناه الصينيون، ويربط خط سكك حديد بناه الصينيون جيبوتي بجارتها إثيوبيا.

ويصلي الجيبوتيون في مسجد مقام على الطراز العثماني باعتباره «هدية من تركيا لجيبوتي».

وفي الوقت الذي كان فيه ماكرون يتحدث أمام مجموعة مختارة في عاصمة جيبوتي، قال أحد مساعدي الرئيس جوليه إن التركيز سيعود إلى الصين بمجرد مغادرة الرئيس الفرنسي للبلاد، لآن الصينيين يأتون بأموال حقيقية.

وما يعطي دولا مثل تركيا والصين ميزة في أفريقيا هو أنها لا تحمل أي تاريخ استعماري سيئ كما هو الحال بالنسبة لفرنسا والدول الأوروبية الأخرى.

وعندما تفشت جائحة ڤيروس كورونا المستجد في العالم دعا ماكرون إلى تخفيف أعباء الديون على الدول الفقيرة وبخاصة في أفريقيا واجرى اتصالات مع نظرائه الأوروبيين لمطالبتهم بموقف موحد تجاه هذا الملف بحسب مسؤول فرنسي.

لكن مرة أخرى تصطدم جهود ماكرون بحقائق الوضع الداخلي في فرنسا. وقد أدرك ماكرون حقيقة الثمن الذي سيدفعه لحديثه عن التاريخ، خلال حملته الانتخابية في 2017، حيث أثارت تعليقاته عن استعمار الجزائر انتقادات حادة من جانب مارين لوبان.

وقال جيرالد درامانين مساعد الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولاي ساركوزي وحفيد أحد الجزائريين الذي حارب إلى جانب فرنسا في حرب الاستقلال، إنه على ماكرون أن يشعر بالعار. وقال فرانسوا فيلون مرشح اليمين الفرنسي إن «كراهية تاريخنا» لا يجب أن تصدر عن مرشح للرئاسة.

ومع اقتراب انتخابات الرئاسة الفرنسية المقبلة عام 2022 يسعى ماكرون للنآي بنفسه عن تصريحات حملته عام 2017، بعد أن اكتشف أن التعامل مع ملف التاريخ الاستعماري لبلاده سيكون باهظ الثمن.

جميع الحقوق محفوظة