الثلاثاء 16 يناير 2018

«لوفيغارو»: كيف أضعف ترامب الاقتصاد الأمريكي؟

«لوفيغارو»: كيف أضعف ترامب الاقتصاد الأمريكي؟

«لوفيغارو»: كيف أضعف ترامب الاقتصاد الأمريكي؟

على الرغم من تأثر العملة الاميركية خلال عام 2017 وتراجعها فإنها لا تزال تحافظ على مكانتها في النظام النقدي العالمي، لكن هل يمكن ان تواصل الولايات المتحدة لعب دورها كمركز مصرفي للعالم بينما يسعى ترامب إلى تطبيق مبدأ الحمائية؟ في ليلة الثامن الى التاسع من نوفمبر 2016، خلّف انتخاب دونالد ترامب حالة من الذهول. ففي ذلك اليوم تذكر رجال الاعمال وصول رونالد ريغان في نوفمبر 1980 الى السلطة، ذلك أن الرجلين الغريبين في الحزب الجمهوري بلغا البيت الابيض، أحدهما ملياردير ومن شخصيات تلفزيون الواقع، والثاني ممثل سابق. والمقارنة بين الرجلين أمر بديهي، ألم يستخدم دونالد ترامب الشعار الذي استخدمه ريغان قبل 36 عاماً وهو «أجعل أميركا عظيمة مرة أخرى»؟! سجل الدولار الاميركي اكبر صعود له في تاريخه بعد شهر واحد من فوز ترامب، حيث ارتفعت قيمته بنسبة 6 في المئة مقارنة باليورو الذي كان يتصدر كل العملات، ومن عرفوا الفرنك الفرنسي يذكرون أن الورقة الخضراء بلغ سعرها 10.55 فرنكات في فبراير 1985 في عهد ريغان. حينها كان الامر صادما، لنتصور ان سعر اليورو لا يتجاوز 0.6228 دولار ،أي عمليا نصف سعره الحالي. كان لريغان استراتيجية جيوسياسية أدت الى انفجار الامبراطورية السوفيتية، لكن ترامب يبدو غارقا من الناحية الاقتصادية والجسدية في شخصية فالستاف (بطل احد اعمال فيردي الهزلية)، وأما أخلاقيا وعلى صعيد السياسة الخارجية، فيبدو ايضا كأوبو الملك (وهو أيضا من شخصيات مسرحية كتبها ألفريد غاري)، باستعداده الكبير لكسر كل تحالفاته التجارية ومعاهداته مثل اتفاقية الشراكة في المحيط الهادئ التي وقعت في فبراير 2016، واتفاق باريس حول المناخ في ديسمبر 2015، اللذين مزقهما مثل اي ورقة عادية، رغم أن قوة نقدية ومالية لا يجب ان تدار بعقلية الطغاة والفكر الفردي وانما يجب ان تمنح ثقتها لشركائها، فهل ترامب بصدد هدم القوة المالية لاميركا؟ حال الورقة الخضراء كانت السنة الاولى التي وصل خلالها دونالد ترامب للحكم في الولايات المتحدة الاسوأ منذ 15 عاما، أي منذ 2002 بالنسبة إلى العملة الاميركية، فالورقة الخضراء تراجعت 9.8 في المئة عن المعدل مقارنة بأهم 19 عملة في العالم في 2017، وبـ12.6 في المئة مقارنة باليورو. يمثل الدولار نقطة الارتكاز بالنسبة الى النظام النقدي الدولي والعملات الاخرى دوما تنخفض وتعلو مقارنة به. ويدخل هذا الدور في اطار اتفاقيات بريتون وودس النقدية التي وقعت في 1944 والتي نصت على ان يكون الدولار بعد الحرب هو العملة الوحيدة التي يتم تحويلها مباشرة الى ذهب وهو ما نطلق عليه اسم «نظام الذهب الدولي». كان لبقية العمليات سعر صرف ثابت مقارنة بالورقة الخضراء، لكن هذا النظام أثار غضب الجنرال ديغول في ستينات القرن الماضي، فطلب من وزير المالية حينها وكان فاليري جيسكان ديستان استرجاع الذهب الفرنسي المودع في الولايات المتحدة. من جهته، فضح ديستان ما وصفه بـ«الامتياز الكبير الذي يستفيد منه الدولار». جالت هذه العبارة العالم كله ولا يزال خبراء النقد يستخدمونها. وان قطع الدولار فجأة علاقته بالذهب في عهد ريتشارد نيكسون في 15 اغسطس 1971، إلا أنه لا يزال مركز العالم. ووفق معطيات صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية فإن 42 في المئة من التجارة الدولية تتم بالدولار و59 في المئة من القروض البنكية كذلك، كما أن البنوك المركزية في العالم تستخدمه في 64 في المئة من احتياطياتها. والعملة الخضراء تؤدي بطريقة ساحقة الوظائف النقدية التي حددها ارسطو قبل 2350 عاما وهي وحدة الحساب وأداة للتبادل واحتياطي ذو قيمة. لكن ضعف سعر صرفها لا يشكك في سيطرتها. ويقول برونو كولمون الاقتصادي عضو المجلس التنفيذي لبنك ديغروف بيتركام «ان عملة عالمية وضعيفة لا تتراجع اهميتها النسبية في التبادلات. على دور الدولار أن يبقى سليما». لكن تراجع الدولار يخضع ايضا لعوامل ظرفية وفق ويليم دي فيجلدر مدير الابحاث الاقتصادية في مجموعة بي أن بي باريبا، حيث يضيف «ان نهاية التسهيل النوعي الاوروبي المحتمل في نهاية سبتمبر سيمثل عامل دعم ومساندة لليورو، وفي المقابل عنصر ضعف بالنسبة للدولار». الاحتياطي الفدرالي اي معجزة هذه التي دفعت الولايات المتحدة الى مراكمة عجز مدفوعاتها الخارجية، سنة بعد سنة منذ ستينات القرن الماضي وحرب فيتنام من دون ان تؤذي الدولار؟ هذا هو السبب الذي دفع نيكسون الى رمي المنشفة وقطع الارتباط بالذهب، فنيكسون لم يكن يرغب في لمس 8133 طنا من المعادن كانت مكدسة في فورت كنوكس، خوفا من أن يطلب منه احد مثل ديغول تحويل الاوراق الخضراء الى ذهب، وهو فعلا ما كانت ترغب فيه فرنسا في عهد ديغول. أصبح الاحتياطي الفدرالي والنظام البنكي الاميركي يلعب دور مصرفي العالم، ورغم ذلك لم تتوقف الولايات المتحدة عن الاستدانة. ألم يكن دور هذا المصرفي استثمار مال الآخرين؟ يشرح أنطون بريندر ببساطة هذه الالية «من جهة استدانت الولايات المتحدة الناتج المحلي الاجمالي لها مرة ونصف المرة (يصل هذا الناتج الى 19 الف مليار)، ومن جهة اخرى لها ديون في بقية العالم تساوي قيمة ناتجها المحلي الاجمالي»، «ولأن الأصول تدر أكثر من الخصوم، فان الفرق ايجابي وتجني بفضله نسبة مئوية من الناتج الاجمالي المحلي كل سنة». لكن الاميركيين لم يكتفوا بدور المصرفي، وفرضوا انفسهم كموثق للعالم، وأيضا المكتب الذي تسجل فيه عقود الزواج والملكية والوصايا كذلك. وتؤمن هذا الدور خمسة بنوك استثمارية كبيرة هي بنك اميركا ميريل لينش،سيتي غروب وغولدمان ساكس وجي بي مورغان شاس ومورغان ستانلي، ولم تنفك هذه البنوك عن توسيع حصتها من الكعكة في القارات كلها، فمجموعة الخمسة كانت تحتل 37.2 في المائة من السوق الاوروبية قبل الازمة، وتغطي اليوم 44.6 في المئة وفق معهد بروغل في سويسرا. ويتساءل باتريك أرتو المسؤول الاقتصادي في ناتيكسيس عما اذا كان الامتياز الكبير الذي يحظى به الدولار اليوم يمكن ان يزول بظهور خطر سياسي في الولايات المتحدة؟ امتياز مهدد الرئيس الاميركي السابق باراك اوباما هو أول من تجرأ على كشف السر لتبرير التفوق المطلق للورقة الخضراء منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث اعترف قبل فترة قليلة من مغادرته البيت الابيض، في مقابلة مع مجلة فوكس، بأن الولايات المتحدة تنفق على قواتها العسكرية مجموع ما تنفقه الدول العشر التي تليها في الترتيب. ولهذا السبب أنشأت شبكة من الدول واجبرتها على التعامل معها مقابل الحماية العسكرية، فاليابان مثلا التي تخشى توترات في بحر الصين ،أصبحت مؤخرا أكبر حامل للسندات في الخزانة الأميركية. ورغم ذلك، يعتبر باري ايشنغرين الاستاذ في جامعة كاليفورنيا ومؤلف كتاب كيف تعمل العملات العالمية، الصادر في عام 2017، يعتبر أن سيطرة عملة واحدة وبشكل كامل يعد امرا غير طبيعي وغير مسبوق تاريخيا. وعند سؤاله عن الصدمات المحتملة ان تغيرت المعطيات، قال المتحدث ذاته «فشل الكونغرس في رفع سقف الدين الفديرالي أو حرب تجارية». ويبدو أن الورقة الرابحة للدولار هي أن منافسيه يواجهان معوقات كثيرة فاليورو لا توجد وراءه قوة سياسية موحدة، واما الرنمينبي فسيبقى مشتبها فيه مادامت دولة القانون مفقودة بعد في الصين، ووفق برونو كولمون فإن الامر الوحيد الذي يمكن أن تحبط غلبة الدولار هو بروز منطقة رنمينبي، ستسهلها سياسة العزلة التي يطبقها ترامب ولكن لن يحصل هذا غدا. فهل علينا أن ننتظر ولاية ثانية لترامب حتى يشعر الدائنون الاميركيون بالخوف من هذا الرجل؟

جميع الحقوق محفوظة